شهدت القرون الثلاثة الأخيرة من تاريخ
المسلمين اتساع الفجوة بين الأخلاق والتشريع. وكانت هناك مراحل زمنية
مختلفة يفقد فيها النظام القانوني الصلة بالنموذج الأخلاقي للإسلام. وقد
تحول الدين الإسلامي إلى مجرد مقياس شرعي لبيان الحلال والحرام. إن العدسة
المجهرية لنظامنا القانوني التشريعي التي تفحص وتدقق لتأتي بحلول فقهية
مبتكرة هي إطار العمل البارز الذي من خلاله نقوم بتحليل العالم من حولنا
ومحاولة فهمه. وماذا كانت النتيجة؟ مزيد من الفتاوى والآراء الفقهية في
التعامل مع واقعنا بمختلف مجالاته.
كيف يكون الحلال غير إسلامي؟ ليس هذا بالأمر
المستبعد، ولا الغريب. بل إن هذا هو ما يحدث عندما ينفصل الفقه عن الإطار
الأخلاقي. وحين ينصب الاهتمام فقط على القيمة القانونية أو الشرعية لأمر ما
على حساب الاعتبارات الأخرى في بعض الأحيان. وفي سبيل السعي وراء الحلال،
ننسى دائمًا أن الشريعة باعتبارها الهيكل القانوني هي نظام شامل ومنظومة
أخلاقية متكاملة مستقاة على مر الأزمان من المصادر الأصلية، وأن الفقه ما
هو إلا جزء منها تم استنباطه بطريقة اجتهادية تقوم على الخلاف في الرأي. ونسينا أن الإسلام لم ينشأ في الأساس كنهج قانوني وأن الحقائق الجوهرية لم يُتوصل إليها عبر الشرائع والقوانين.
ولنضرب بعض الأمثلة على ذلك من ثلاثة قطاعات مختلفة نوضح بها كيف يمكن أن يصبح الحلال غير أخلاقي.
الطعام: تكشف
الإحصاءات أن سوق اللحوم الحلال تقدّر بمليارات الدولارات حول العالم. وقد
تحدث القرآن الكريم عن آداب الاستهلاك، وأشار إلى مفهوم الحلال والطيب أو
بعبارة أخرى الحكم والأخلاق، فقال في سورة البقرة "يَا أَيُّهَا النَّاسُ
كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا" (البقرة: 168). وهما جانبان
لا بد من أخذهما في الاعتبار. ومن المؤكد أن المسلمين يولون أهمية قصوى
لطريقة ذبح الحيوان ويحرصون كل الحرص على مشروعية الذبح وفق ما تقرره أحكام
الشريعة الإسلامية، لكنهم للأسف لا يبالون بطريقة التعامل مع الحيوان ولا
بظروفه المعيشية. وهو أمر لا شك يأباه الإسلام الذي لا يحرص على مسألة
استهلاك الطعام واللحوم فقط؛ وإنما يهتم بالنظام البيئي الحيواني بأكمله.
ولهذا جاء الإسلام بآداب للتعامل مع الحيوانات وغيرها من المخلوقات. واللحم
قد يكون حلالاً لكن هل يمكننا أن نؤكد بكل ثقة أن سلوكنا مع الحيوان
وتعاملنا معه بقسوة ووحشية هو أمر إسلامي؟
المال والاقتصاد:
سطع نجم الاقتصاد الإسلامي خلال العقدين الماضيين وشهد نموًا هائلا.
وارتكز إلى فلسفة أساسية تقوم على تلبية الاحتياجات المنشودة المقبولة من
الناحية الدينية عبر الأسواق الإسلامية العالمية. وأعضاء الرقابة الشرعية
حاضرون للبت في صحة العقود والمعاملات. ومع ذلك فإن النظرة الفاحصة تكشف
نفس إطار العمل الرأسمالي الليبرالي الجديد، لكن بصبغة إسلامية هذه المرة.
ويغفل القطاع المالي التقليدي مجموعة من الأسئلة الأساسية حول العدالة
الاقتصادية والتوزيع العادل للثروة، والوصول إلى رأس المال، والأسس
الأخلاقية للعقود التجارية، فالغني يزداد غنى، والفقير يزداد فقرًا - سواء
كان ذلك تحت مظلة اقتصاديات السوق الحرة الرأسمالية الغربية أو حتى تحت
مسمى التمويل الإسلامي. حتى أن فرنسا معقل العلمانية في أوروبا سعت بكل قوة
لتقديم إطار قانوني يسمح بتبني النظام الاقتصادي الإسلامي كخيار تمويلي.
وقد كانت كريستين لاجارد، الرئيس الحالي لصندوق النقد الدولي، أكبر منظرة
وداعية إلى ضرورة تطبيق النظام المالي الإسلامي في فرنسا حين كانت تشغل
منصب وزيرة المالية الفرنسية. فهل كان السبب في هذا اعتبارات أخلاقية تسعى
لإيجاد منظومة اقتصادية بديلة أم مجرد وسيلة لجذب استثمارات الدول الخليجية
في ظل التدهور الشديد لليورو؟ ويبقى السؤال قائمًا، ما الذي يضفي على
التمويل الإسلامي الصبغة الإسلامية بعيدًا عن التعامل مع المنافذ الشرعية
لإيجاد منتجات متوافقة مع الشريعة؟
الفن والثقافة:
تأتي الموسيقى في مقدمة النزعة الثقافية التي طالت ملايين البشر وأثرت
فيهم، وانتشرت في كل بقعة ومكان. مما جعل الفنانين المسلمين المعنيين
بالشأن الديني ينتجون "الموسيقى الإسلامية" في محاولة لتقديم البديل لثقافة
البوب السائدة. على أن العديد من مظاهر ثقافة البوب والهوس بالمشاهير التي
لا تختلف كثيرًا عن ثقافة صناعة الترفيه والتسلية (بغض النظر عن الكلمات
الإسلامية) تبدو حاضرة بوضوح في الصناعة الثقافية الإسلامية. ويواصل الفن
عمله في جو من الإفلاس الروحي والبيئة التجارية التي تتميز بها الحياة
العصرية الباحثة عن اللذة والمتعة فقط. لكن الفن في الثقافة الإسلامية هو
تجربة روحية، لا وسيلة لإشباع اللذة أو الترفيه المحض. وقد تكون الكلمات
التي تغيرت لتعكس التعاليم الإسلامية المباشرة مسعى حلالاً لا بأس فيه، لكن
تبقى مع ذلك خاضعة لثقافة سائدة لها الغلبة والهيمنة مستمدة من الهوس
بالشهرة والمادية والنزعة الاستهلاكية، فهل تبقى مع كل هذا إسلامية؟
الصبغة الأخلاقية للإسلام
إن جوهر الإسلام هو صبغته الأخلاقية. ولدينا
في هذا الصدد ثلاثة مصطلحات مهمة تظهر جلية في النصوص الإسلامية هي:
الآداب والإحسان والأخلاق. ويتعلق الأمر بجوهر الفعل والحالة السلوكية،
فذلك أكثر أهمية من مظهره الشعائري.
يقول الله عز وجل: "لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ
وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي
الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ". (سورة البقرة: الآية 177)
فالبر هو جماع الإيمان والعبادة والأخلاق والعدالة الاجتماعية وإظهار القوة الروحية الداخلية.
يقول النبي صلى الله
عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وجاءت بعثته رسالة أخلاقية
لتجعل منا مجتمعًا أفضل على الصعيد الإنساني والإيماني. وعلمنا النبي صلى
الله عليه وسلم أننا حين نقدم الأضحية فلن ينال الله لحومها ولا دماؤها،
ولكن يناله التقوى منا. والتقوى ليس المراد بها المظهر الخارجي وإنما تلك
الحالة الروحية التي تنتاب القلب والمبادئ الأخلاقية التي تنعكس على
الأفعال. غير أننا فقدنا هذا المعنى للآداب واستبدلنا به منهجًا غير أصيل
للأخلاق والشرع.
نعم إن مشكلتنا اليوم في
فقدان هذا الأدب، وهذا ما عبر عنه سيد نقيب العطاس، أحد أبرز الفلاسفة
المسلمين في العصر الحديث في العديد من كتاباته. وقد عرّف الأدب بمفهوم
شامل متعمق فقال ما معناه "هو الإقرار والاعتراف بحقيقة أن المعرفة والوجود
ينتظمان في ترتيب هرمي وفق درجات ومنازل مختلفة، والاعتراف بمنزلة الشخص
حسب موقعه من هذه الحقيقة في ضوء قدراته وإمكاناته الجسدية والفكرية
والروحية".
مطلوب مشرفين
كرة المتواجدون
دخول
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 3 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 3 زائر
لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 27 بتاريخ الخميس مايو 11, 2017 4:21 pm
احصائيات
أعضاؤنا قدموا 1607 مساهمة في هذا المنتدى في 1412 موضوع
هذا المنتدى يتوفر على 827 عُضو.
آخر عُضو مُسجل هو مظلات وسواتر فمرحباً به.
المواضيع الأخيرة
أفضل 10 فاتحي مواضيع
المواضيع الأكثر نشاطاً
المواضيع الأكثر شعبية
حلال لكنه غير إسلامي استعادة جوهر الأخلاق الإسلامية
لا يوجد حالياً أي تعليق
» علم الأخلاق الإسلامية
» القسم الثاني من قائمة القراءة في الفلسفة الإسلامية وهو ما صنف مفرداً عن علم من أعلام الفرق الإسلامية .
» القسم الثالث من قائمة القراءة في الفلسفة الإسلامية وهو ما صنف مفرداً عن علم من أعلام الفلسفة الإسلامية .
» مَوْسوعَة الأخلاق الإسْلاميّة
» الأخلاق المسيحية - الموعظة على الجبل
» القسم الثاني من قائمة القراءة في الفلسفة الإسلامية وهو ما صنف مفرداً عن علم من أعلام الفرق الإسلامية .
» القسم الثالث من قائمة القراءة في الفلسفة الإسلامية وهو ما صنف مفرداً عن علم من أعلام الفلسفة الإسلامية .
» مَوْسوعَة الأخلاق الإسْلاميّة
» الأخلاق المسيحية - الموعظة على الجبل
السبت أبريل 23, 2016 12:15 pm من طرف ابوصدام عدى
» فرح حسن قرشى ابوعدوى
السبت أبريل 16, 2016 7:59 pm من طرف ابوصدام عدى
» الغاز الغاز....................وفوازير
الخميس أبريل 14, 2016 9:03 pm من طرف ابوصدام عدى
» اسئله اين................................. ,,,
الخميس أبريل 14, 2016 9:00 pm من طرف ابوصدام عدى
» اسئله اين.........................
الخميس أبريل 14, 2016 8:59 pm من طرف ابوصدام عدى
» اسئله ما هو ........................
الخميس أبريل 14, 2016 8:58 pm من طرف ابوصدام عدى
» اسئله ما هى ....................
الخميس أبريل 14, 2016 8:57 pm من طرف ابوصدام عدى
» اسءله كم مساحه الاتى
الخميس أبريل 14, 2016 8:56 pm من طرف ابوصدام عدى
» اكثر من 200 سؤالاً وجواباً منوعة-أسئلة مسابقات
الخميس أبريل 14, 2016 8:55 pm من طرف ابوصدام عدى